السلام المشروط- هل تُفرغ التسوية الدولية نصر الجيش السوداني؟

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين08.27.2025
السلام المشروط- هل تُفرغ التسوية الدولية نصر الجيش السوداني؟

في منعطف حاسم من مسيرة الصراع السوداني، وبينما تلوح بوادر النصر الميداني للجيش، تظهر في الأفق تسوية دولية محتملة، تحمل في طياتها خطر إفراغ هذا الانتصار من مضمونه السياسي الجوهري.

ففي ثنايا المحادثات الأخيرة التي جمعت وزير الخارجية الأميركي بأطراف المجموعة الرباعية، برزت دلالات تبعث على القلق، تشير إلى أن الغرب لا يهدف فقط إلى تحقيق سلام ينهي أتون الحرب، بل يسعى إلى فرض اتفاق يحافظ على توازن دقيق ومزعزع بين سلطة الدولة وقوى التمرد. الدافع وراء ذلك يكمن في خشية الغرب من أن يتحول انتصار الجيش إلى حجر عثرة أمام بسط النفوذ الدولي على حساب الإرادة الوطنية المستقلة، ويبررون ذلك بادعاءات مفادها منع تحول النصر إلى حكم عسكري قمعي مستبد.

إن هذا "السلام" المشروط يثير الشكوك والريبة، إذ لا يعتمد على الحقائق الملموسة على أرض المعركة، بل يستجيب لحسابات القوى والنفوذ، ويعيد إنتاج نفس التوازنات المختلة التي أدت إلى تفجر الأوضاع. وهنا يبرز سؤال جوهري ومؤلم: هل من الممكن إرساء سلام عادل ومنصف دون الاعتراف بالمنتصر والمنهزم؟ وهل يُطلب من الجيش أن يحقق النصر في الميدان، ثم يُجبر على مساواة نفسه سياسيًا مع من تمرّد على الدولة وارتكب أبشع الجرائم والفظائع ضد المدنيين العزل؟

في هذا التحليل، نسعى إلى استكشاف الخلفيات والدوافع الكامنة وراء التحرك الدولي، وتفكيك منطق "السلام المنقوص"، واستشراف تبعاته المحتملة على مستقبل السيادة الوطنية، وعملية الانتقال السياسي المدني في السودان.

في هذا السياق، تتبنى المجموعة الرباعية الدولية مبادرات متسارعة وحثيثة؛ بهدف إنهاء الحرب الدائرة في السودان. بيد أن هذه المبادرات، على الرغم من الشعارات الإنسانية البراقة التي ترفعها، لا تبدو بمنأى عن حسابات المصالح السياسية والأمنية المعقدة.

تضم الرباعية دولًا تتولى مهمة التنسيق بشأن المسار السياسي والدبلوماسي منذ ما قبل اندلاع الحرب، وتسعى الآن إلى لعب دور محوري ومركزي في صياغة ملامح تسوية قد لا تستجيب بالضرورة للمصلحة الوطنية العليا، أو للإرادة الشعبية السودانية الحقيقية.

لكن المثير للانتباه هو أن هذه الأطراف، وخاصة الغربية منها، باتت تتحدث بنبرة تدعي أن تحقيق حسم عسكري كامل لصالح الجيش سيؤدي إلى "إعادة إنتاج الحكم العسكري". هذا ما وصفته بعض مراكز التفكير الأميركية، في حين تتجاهل هذه الأطراف خطوة تعيين رئيس وزراء مدني يتمتع بصلاحيات واسعة، وهو الأمر الذي لقي ترحيبًا من الاتحاد الأفريقي، بالإضافة إلى القوى السياسية السودانية الفاعلة، باستثناء تلك القلة المرتبطة بأجندات خارجية.

كل هذه الأحداث تجري وكأن المطلوب من الجيش أن يقاتل بمفرده، وأن يُحاسَب وحده، ثم يُمنع من ترجمة نصره إلى شرعية سياسية راسخة. هذا الموقف يعيد إلى الأذهان النموذج الذي فُرض على أكثر من دولة في المنطقة: انتصارات ميدانية باهرة تُعطلها صفقات ناعمة تحافظ للمتمردين على موقع شكلي في "السلام"، وتفتح لهم أبواب السلطة على مصراعيها باسم "الشمولية السياسية".

لكن السؤال الحاسم الذي يتجاهله صناع هذه الصفقة المشبوهة هو: هل يمكن بناء سلام حقيقي بالتواطؤ مع الانتهاكات الصارخة؟ وهل المطلوب هو إخماد نار الحرب مؤقتًا، أم ترسيخ ازدواجية الدولة وتكريسها؟

توازن زائف وحسابات أجنبية

حين تتكثف الدعوات الدولية للسلام في اللحظة التي يتقدم فيها الجيش ميدانيًا، لا يبدو الأمر خاليًا من الدوافع السياسية الخفية.

فالمجموعة الرباعية، وعلى رأسها واشنطن، ظلت لعدة أشهر تتعامل مع مليشيا الدعم السريع كطرف سياسي له وزنه، لا كمجموعة متمردة خارجة على القانون، على الرغم من الفظائع والجرائم الموثقة التي ارتكبتها. وعندما بدأت موازين القوة تميل بوضوح لصالح الجيش السوداني، بدا أن السقف الدولي قد انخفض فجأة من دعم "الانتقال المدني" إلى فرض "وقف فوري لإطلاق النار".

كما فرضت واشنطن عقوبات على السودان بذريعة استخدام الجيش أسلحة كيميائية، استنادًا إلى تقرير صحفي مشكوك في مصداقيته. هذا التغير الملحوظ في اللهجة والتكتيك يكشف ضمنيًا عن اعتراف دولي غير معلن بأن التمرد قد خسر المعركة ميدانيًا. فمليشيا الدعم السريع، التي كانت تسيطر على مناطق واسعة في بداية الحرب، أصبحت اليوم تترنح في جيوب معزولة، وتعتمد في بقائها على حرب المدن والقصف العشوائي الذي لا يغير من الأمر الواقع العسكري شيئًا.

ومع ذلك، لا تُترجم هذه الهزيمة الواضحة في الخطاب السياسي الغربي، بل يُعاد تأهيل المليشيا سياسيًا من خلال المطالبة بإشراكها في التسوية، بحجة أنها "طرف فاعل" لا يمكن تجاوزه أو إقصاؤه.

لكن ما يثير القلق أكثر من إعادة تأهيل التمرد، هو أن هذا الإقرار الضمني بالهزيمة لا يُبنى عليه موقف واضح وصريح لصالح الدولة، بل يُستغل للضغط على الجيش لتقديم تنازلات سياسية جوهرية تُفرغ انتصاراته من مضمونها السيادي.

فهل يُراد للجيش أن ينتصر فقط ليُمنع من حماية الدولة؟ أم أن الغرب يخشى من نهاية الحرب أكثر مما يخشى استمرارها، لأن النهاية تعني أن أحد الطرفين سيفرض واقعًا جديدًا لا يخضع للإملاءات الخارجية والضغوط الدولية؟

في العديد من النزاعات، يكون السلام تتويجًا للنصر. لكن في الحالة السودانية، يبدو أن هناك من يسعى إلى فصل المسارين قسرًا: أن يتوقف القتال دون الاعتراف بانتصار طرف على آخر، وأن يُفرض على الدولة أن تصافح من حمل السلاح ضدها دون قيد أو شرط.

هذا هو جوهر "السلام المنقوص" الذي تدفع به بعض العواصم الغربية عبر المجموعة الرباعية. سلام يُطلب فيه من الجيش أن يوقف المعركة وهو في موقع القوة، وأن يقبل بتسوية تعيد دمج عناصر التمرد في المشهدين السياسي والعسكري، بحجة "الاستقرار" المزعوم.

إن أخطر ما في هذه المعادلة هو محاولة فرض توازن سياسي وهمي على حساب الحقائق الميدانية الملموسة. فالدعوات لإشراك الدعم السريع في مستقبل الحكم لا تأتي احترامًا لمطالب شعبية حقيقية، بل تلبيةً لاعتبارات خارجية تخشى من أن تتحول سيطرة الجيش إلى مشروع حكم وطني يصعب التحكم فيه من الخارج. هكذا يتحول النصر إلى عبء ثقيل، والانتصار إلى خطر يجب احتواؤه وتقليص آثاره، لا ترجمته إلى واقع سياسي جديد.

لكن هذا المنطق يهدد بتكرار الكارثة: كيف يمكن بناء سلام حقيقي مع مليشيا ارتكبت جرائم تطهير عرقي مروعة؟ كيف يُطلب من الضحايا أن يتعايشوا مع الجناة والقتلة باسم "الحل السياسي الشامل"؟ وهل تُبنى دولة القانون على قاعدة الإفلات من العقاب والمساواة الزائفة بين الدولة والمتمردين؟

هذا النوع من السلام لا ينهي الحرب بشكل جذري، بل يُجمدها في صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، تمهيدًا لجولة قادمة من الصراع والعنف.

إن النصر العسكري، حين لا يجد ترجمته السياسية المناسبة، يصبح فخًا كبيرًا. فالجيش السوداني، الذي قاتل بمفرده في مواجهة تمرد مسلح متوحش ومدعوم من قوى خارجية، لم يكن يدافع عن نفسه فقط، بل عن كيان الدولة ومؤسساتها وسيادتها الوطنية.

وبالتالي، فإن حرمان الجيش من ثمرة هذا الانتصار المستحق، بحجة الحفاظ على التوازن أو "اللامركزية السياسية"، لا يعني سوى تقويض سلطة الدولة الوطنية لحساب مراكز نفوذ مليشياوية أو محمية من قوى خارجية.

إن فرض "نصر غير مكتمل" على الجيش يحمل ثلاث نتائج كارثية وخيمة:

  1. إضعاف المؤسسة العسكرية معنويًا وسياسيًا: كيف يُطلب من جيش قدم آلاف الشهداء من أجل الوطن أن يقبل بتسوية تساوي بينه وبين من حاربه وخانه؟ كيف يُطالَب بالصبر على حماية شعبه والدفاع عنه، ثم يُمنع من حصد شرعية هذه الحماية؟
  2. تفريغ التحول المدني من مضمونه الحقيقي: إذ لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي في ظل وجود مليشيات مسلحة خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، ولا بوجود "شركاء سلام" لا يؤمنون بالدولة إلا إذا كانت ضعيفة وهشة.
  3. إضعاف ثقة الشارع في العملية السياسية برمتها: فالجمهور السوداني الذي دعم الجيش بقوة واستنفر أبناءه لجانبه، رفضًا للفوضى والقتل والاغتصاب، سيشعر بأن تضحياته ذهبت هباءً إذا أُعيد دمج الجناة والقتلة في السلطة.

إن أخطر ما في هذا النصر غير المكتمل، أنه لا يؤسس لسلام دائم ومستقر، بل لتعايش هش وقابل للانفجار بين قوة تقاتل من أجل الدولة وبقائها، وأخرى تستفيد من بقاء الدولة على شفا الهاوية والتفكك.

الرباعية.. دور مشبوه وتجربة فاشلة

في الوقت الذي تتسارع فيه المبادرات الغربية لفرض تسوية تُبقي على جزء من التمرد ضمن بنية الحكم والسلطة، تتصاعد في الداخل السوداني أصوات تحذر من مصادرة القرار الوطني باسم "الحل الدولي" المفروض.

فالتوازن الحقيقي ليس بين الجيش ومليشيا الدعم السريع المتمردة، بل بين رغبة الداخل في سلام يعيد للدولة هيبتها المفقودة، وبين رغبة الخارج في تسوية تحفظ نفوذه ومصالحه وتبقي البلاد تحت الوصاية الناعمة أو الفجة. هذه الفجوة العميقة بين الداخل والخارج تتجلى بوضوح في الخطاب السياسي:

  • القوى الوطنية المستقلة ترفض أي مشروع يعيد دمج مليشيا الدعم السريع في هياكل الدولة، وتطالب بسلام يقوم على المحاسبة والمساءلة ونزع السلاح وتفكيك المليشيات بشكل كامل.
  • الشارع السوداني الذي دفع ثمنًا باهظًا للحرب من روحه وجسده، يدرك تمام الإدراك أن أي تسوية لا تعترف بالمنتصر والخائن، ستكون مجرد هدنة مؤقتة قبل انفجار جديد وأكثر عنفًا.
  • بينما تواصل الرباعية الدولية الترويج لفكرة السلام "الشامل" الذي لا يُقصي أحدًا، حتى وإن كان هذا "الأحد" هو الجلاد الذي ارتكب أفظع الجرائم.

وهنا يفرض الواقع سؤالًا لا يمكن تجاهله أو القفز عليه: هل أصبح القرار السياسي السوداني رهينة لموازين القوى الدولية المتغيرة؟ أم أن اللحظة الراهنة تستدعي تشكيل جبهة وطنية عريضة تعيد التفاوض من موقع القوة، لا من تحت سقف الابتزاز الدبلوماسي؟ إن من يريد السلام حقًا، يجب أن يسأل أولًا: سلام مع من؟ وعلى أي أساس؟ لأن السلام ليس مجرد نزع سلاح فقط، بل هو استعادة معنى الدولة وهيبتها وسيادتها.

احذروا عودة الرباعية للواجهة

إن الرباعية، التي نشأت عمليًا عقب سقوط نظام البشير في عام 2019، دون تفويض شعبي أو دولي واضح، رفعت شعارًا براقًا هو: "دعم الانتقال الديمقراطي". لكن تجربتها على أرض الواقع عكست مقاربة فوقية متعالية، سعت إلى فرض ترتيبات سياسية لا تنبع من الداخل السوداني، بل من حسابات إقليمية ودولية ضيقة.

تاريخ الرباعية يشي بميلها الواضح إلى استثمار حالة الهشاشة السياسية في السودان، خاصة خلال فترة حكومة عبدالله حمدوك، التي لم تحظَ بتفويض انتخابي حقيقي، الأمر الذي فتح الباب واسعًا أمام تدخلات مباشرة وسافرة في الشأن السوداني الداخلي، أبرزها دعم مشروع "دستور المحامين" الذي وُجهت له انتقادات واسعة؛ لكونه يكرس هيمنة نخبوية مدنية غير توافقية، ويمهد الطريق لتدخلات أجنبية تحت غطاء قانوني وسياسي خادع.

 كما كان للدعم الذي حظي به الاتفاق الإطاري من قبلها – والذي ساوى بين المؤسسة العسكرية ومليشيا الدعم السريع – دورٌ كبير في خلق حالة من الانقسام الحاد والاستقطاب الشديد داخل الساحة السياسية السودانية. وهو ما رأته تقارير حقوقية مرموقة مثل "هيومن رايتس ووتش" تهديدًا خطيرًا لاستقرار الدولة ووحدتها الوطنية.

السلام الحقيقي من الداخل لا من العواصم الأجنبية

إن الحل الحقيقي للأزمة السودانية لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يولد من رحم تسويات جزئية قسرية، بل من حوار وطني شامل وجامع، ينطلق من الداخل، ويشارك فيه كل مكونات المجتمع السوداني بكل أطيافه. سلامٌ يُعيد هيكلة العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أسس وطنية خالصة، لا على إملاءات دولية وضغوط خارجية.

ويجب أن يكون هذا السلام العادل قائمًا على الأسس التالية:

  1. نزع السلاح من جميع المليشيات والجماعات المسلحة غير النظامية.
  2. دمج من تنطبق عليه الشروط والمعايير في القوات المسلحة الرسمية وفقًا للقانون العسكري.
  3. محاسبة ومساءلة جميع من تورطوا في ارتكاب جرائم أو انقلابات عسكرية.
  4. استعادة ثقة الشارع السوداني في مسار وطني حقيقي، لا شراكة وهمية مع من قادوا البلاد إلى الهاوية والدمار.

الخلاصة الحاسمة هي أن السيادة الوطنية لا تُهدى أو تُمنح، بل تُنتزع انتزاعًا. فلم يعد السودان تلك الحديقة الخلفية التي تعبث بها الأيدي الأجنبية. لقد تغير الزمن وتبدلت المفاهيم، وتغير الوعي العام. وإذا كانت الرباعية الدولية تريد حقًا أن تكون فاعلًا إيجابيًا، فعليها أن تدعم خيارات الشعب السوداني لا أن تصادرها، وأن تُعلي من شأن الدولة ومؤسساتها لا أن تُساويها بكيانات متمردة خارجة عن القانون.

فالسلام لا يُبنى على التغاضي عن الجرائم، ولا على التجميل السياسي للجراح العميقة. السلام الحق، هو الذي يستند إلى العدالة والإنصاف، ويعيد الاعتبار للدولة ومؤسساتها، ويمنح الأمل للمواطن بأن دماء أبنائه الشهداء لم تذهب سدى. فإما سلام حقيقي يعيد للسودان سيادته الكاملة، أو تسوية مشبوهة تعيد إنتاج الأزمة وتأجيج الصراعات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة